عروة بن الزبير.. مؤسس علم التاريخ عند المسلمين
الكـاتب : أحمد عبد الحميد عبد الحق
"كان عروة بحراً لا ينزف ولا تكدره الدلاء" (الزهري).
ميلاده ونشأته:
ولد عروة بن الزبير على أرجح الأقوال سنة (23هـ)، ونشأ وتربى في المدينة كما ربي سائر أترابه من أبناء الصحابة، ولا يعلم شيء عن الفترة المبكرة من حياته سوى إشارات عابرة أتت في ثنايا مروياته، لكن يبدو أن نسبه من جانب، وحبه للعلم منذ صغره من جانب آخر قد ميزاه على غيره من أقرانه، فكان دائماً يتمنى أن يؤخذ عنه العلم (1). فبذل لذلك جهده ووقته حتى قال: "لقد كان يبلغني الحديث عن الصحابي فآتيه فأجده قد قال من القيلولة فأجلس على بابه أسأله عنه" (2).
سعة معارفه:
وقد تعددت معارف عروة وكثرت حتى قال عنه الزهري: "كان بحراً لا ينزف، ولا تكدره الدلاء" (3). وشملت هذه المعارف الحديث والتفسير والشعر والفقه، إضافة إلى السيرة والمغازي التي لا ينازعه فيها منازع من شيوخ عصره.
عبادته وأخلاقه:
كان عروة مثالاً للعالم العابد الذي لا يخالف قوله فعله، وبلغ من درجة اجتهاده في العبادة أن ابنه هشاماً قال: "كان يقرأ كل يوم ربع القرآن، ويقوم به الليل، وكان كثير الصوم، قطعت رجله وهو صائم، ومات أيضاً وهو صائم، وكان يقول عن نفسه: إني لأسأل الله ما أريده في صلاتي حتى أسأله الملح" (4)، كما كان حليماً صبوراً محتسباً عفيفاً كريماً صالحاً زاهداً بعيداً عن الفتنة (5)، وكان يقول: "رب كلمة ذل احتملتها أورثتني عزاً طويلاً".
كما كان ينأى بنفسه عن الفتن ويحذر منها، ويرى أن فيها هلاك الأمة ويقول: "أتى أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، هل للإسلام منتهى؟ قال: ((نعم، فمن أراد الله به خيراً من عرب أو عجم أدخله عليه، ثم تقع فتن كالظلل يضرب بعضكم رقاب بعض، فأفضل الناس يومئذ معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس…))" (6).
مكانته التاريخية:
يعد عروة بن الزبير بحق أول من صنف في المغازي كما ذكر الواقدي (7)، ولكن مصنفاته لم تكن كتباً بالمفهوم المتعارف عليه الآن بين الدارسين، وإنما كانت عبارة عن رسائل تجمع كل رسالة الروايات التي تتناول موضوعاً أو حديثاً معيناً يشبه ما يسمى الآن الفصل من الكتاب يصوغه بأسلوبه الخاص، يقول الأستاذ محمد شفيق غبريال: "وعندما دونت هذه الأخبار، دونت منفصلة، فنجد كتاباً عن وقعة الجمل أو صفين، أو ما إلى ذلك" (8).
وربما كان ذلك هو الشائع في عصره، لا في التاريخ فحسب بل في سائر الفنون، فعن تدوين الحديث مثلاً يقول الأستاذ محمد محمد أبو زهو: "وكانت طريقتهم تتبع وحدة الموضوع، فهم يجمعون في المؤلف الواحد الأحاديث التي تدور حول موضوع واحد؛ كالصلاة مثلاً، يجمعون الأحاديث الواردة فيها في مؤلف واحد" (9).
مروياته التاريخية:
وصل إلينا كثير من مرويات عروة التاريخية متناثرة عند ابن هشام في "السيرة"، والواقدي في "المغازي"، وابن سعد في "الطبقات"، وابن شبة النميري في "تاريخ المدينة"، والطبري في "تاريخ الرسل والملوك"، وفي بعض المصادر المتأخرة مثل: ابن عبد البر في "الاستيعاب"، وابن الأثير في "أسد الغابة"، والذهبي في كتابيه "السيرة" و"المغازي"، وابن كثير في "البداية والنهاية"، والسيوطي في "الخصائص".
وبالنظر في هذه المرويات نجد أنها تناولت:
الفترة المكية من حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وذكر فيها الإرهاصات التي سبقت نزول الوحي مثل حادث شق صدر النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعبده في غار حراء، ونزول الوحي عليه في سن الأربعين، وأول ما نزل من القرآن، وإسلام خديجة بنت خويلد –رضي الله عنها-، وتعليم جبريل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الوضوء والصلاة، وإعلان الدعوة وموقف المشركين منها، وفتنة المسلمين تحت العذاب..
وهجرة المسلمين إلى الحبشة، وسبب اختيارها للهجرة، حيث ذكر أنها كانت متجراً لقريش، أي مألوفة لأهل مكة، وكان بها ملك عادل لا يظلم عنده أحد، وبعض أسماء من هاجر إليها، ومحاولة قريش إرجاع المسلمين المهاجرين إلى الحبشة.
وتحدث عن بعض مظاهر إيذاء المشركين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مثل: رمي القاذورات عليه، والسخرية منه، وعن خروج أبي بكر الصديق مهاجراً، ثم عودته إلى مكة بعد أن أدخله ابن الدغنة في جواره، ومقابلة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لوفد يثرب إلى مكة وعرضه الإسلام عليهم، وبيعة العقبة الأولى، وبيعة العقبة الثانية، وفي كل ذلك يذكر الآيات القرآنية المرتبطة بكل حادث إن وجدت ويفسرها عند الحاجة.
ثم تكلم عن هجرة المسلمين إلى المدينة، وهجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك مع تفاصيل قليلة عن أحداثها، وكيف تمت، مثل: خبر اختفاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- في غار ثور، واستئجاره رجلاً من بني الديل؛ ليدله وأبا بكر على الطريق إلى المدينة، ونزوله قباء، وانتظار المسلمين وتشوقهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المدينة وكيفية استقباله.
الفترة المدنية: وتحدث فيها عن إصابة بعض المسلمين بالحمى بعد وصولهم إلى المدينة، ودعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يحببها إليهم، وزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عائشة -رضي الله عنها-، وسرية عبد الله بن جحش –رضي الله عنه-، ومسألة القتال في الأشهر الحرم، وما نزل في ذلك من القرآن،، وغزوة بدر، وقد تحدث فيها عن دعاء الرسول على المشركين، واختلاف كلمة المشركين، ورغبة بعضهم في العودة، وترك القتال، وبعض أسماء من قتل من المشركين واستشهد من المسلمين فيها، وقصة إسلام عمير بن وهب –رضي الله عنه-.
وغزوة بني قينقاع وما نزل فيها من القرآن، وغزوة أحد وتحدث فيها عن رؤيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل الغزوة، وإعطاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيفه لأبي دجانة –رضي الله عنه- يوم أحد، وقصة قتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بن خلف، وغزوة حمراء الأسد، وغزوة بئر معونة، وغزوة الرجيع، وغزوة بني النضير، وكيفية تقسيم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أفاءه الله عليه في هذه الغزوة وما نزل في ذلك من القرآن.
وغزوة الخندق، وغزوة بني قريظة، وحكم سعد بن معاذ –رضي الله عنه- فيهم، وغزوة بني المصطلق، وحادثة الإفك، وزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بجويرية بنت الحارث –رضي الله عنها-، وسرية زيد –رضي الله عنه- إلى أم قرفة وصلح الحديبية وشروطه، وقصة فرار أبي بصير –رضي الله عنه- وأتباعه إلى ساحل البحر الأحمر وتعرضه لتجارة قريش، وغزوة خيبر، وغزوة مؤتة.
وفتح مكة، وغزوة حنين، وحصار الطائف، وإعطاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- للمؤلفة قلوبهم، وإرسال عروة بن مسعود –رضي الله عنه- بعد إسلامه إلى ثقيف، وقصة مقتله على أيديهم، وغزوة تبوك ودور المنافقين فيها، وكتب الرسول –صلى الله عليه وسلم- إلى الملوك والأمراء، وحجة الوداع، وتجهيز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعث أسامة –رضي الله عنه-، ومرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووفاته في بيت عائشة –رضي الله عنها-، وعمره حين توفى، وإشارته إلى فضل أبي بكر –رضي الله عنه- ووصيته بالأنصار قبل موته، وهذه الروايات إذا نظرنا إليها مجموعة وجدناها تكون شكلاً أو هيكلاً عاماً لسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
عصر الخلفاء الراشدين: وبدأه بالحديث عن فضل أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، وذكر الأحاديث التي تؤيد ذلك، واجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة للتشاور في أمر الخلافة.
وحروب الردة، وموقعة أجنادين، وتفرغ أبي بكر –رضي الله عنه- لإدارة شئون المسلمين، وتركه التجارة، ومرض أبي بكر الصديق، ومكان وتاريخ وفاته، ومن خلال مروياته المتفرقة عن أبي بكر –رضي الله عنه- نستطيع أن نقول أنه قدم صورة عن أهم الأحداث في عصره.
ثم تحدث عن واقعة اليرموك، والقادسية، وعن ذهاب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى فلسطين، وعن قصة إصابة أبي عبيدة بن الجراح –رضي الله عنه- في طاعون عمواس، واشتداد عمر –رضي الله عنه- في محاسبة أهله، وبعض الأخبار المتناثرة عن الحياة الاجتماعية في عهد عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-.
وتكلم في خلافة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- عن مدى الغنى الذي وصل إليه الناس في عصره، وعن مجيء الثوار إلى المدينة وحصارهم له، وعن مجادلة أهل مصر له، ثم تحدث عن واقعة الجمل، وعن النزاع الذي وقع بين أهل بيته وبين بني أمية، وقد حكى قصته بنزاهة تامة دون تحيز لأهل بيته.
أبرز السمات العامة لمرويات عروة بن الزبير:
- الاقتصار على تناول تاريخ الإسلام فقط، باستثناء حديثه عن بعض إرهاصات النبوة التي سبقت نزول الوحي، مثل: الرؤيا الصادقة (10)، وخبر يسير عن زيد بن عمرو بن نفيل وإظهاره الحنيفية، ذكره عن أمه أسماء بنت أبي بكر –رضي الله عنها وعن أبيها- (11).
- الإيجاز والاقتصار على الجانب المهم من الرواية أو الخبر، انظر مثلاً: حديثه عن إسلام أبي سفيان بن حرب –رضي الله عنه- إذ يقول: "دخل عليه –[أي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-]- أبو سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم بن حزام بمنزله بمر الظهران فبايعوه على الإسلام، فلما بايعوه بعثهم بين يديه إلى قريش يدعونهم إلى الإسلام، فأخبرت أنه قال: ((من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، وهي بأعلى مكة، ومن دخل دار حكيم وهي بأسفل مكة فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه وكف يده فهو آمن))" (12)، هذه الرواية الموجزة نراها قصة طويلة عند ابن إسحاق والواقدي تمتد لصفحات.
- النزاهة والموضوعية والبعد عن التعصب حتى ولو لأقرب الأقربين له، فقد روى أن سيف الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي أعطاه لأبي دجانة -رضي الله عنه- يوم أحد طلبه أبوه الزبير -رضي الله عنه- فأبى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن يعطيه له(13)، رغم أنه قد يفهم منها نقصان منزلة أبيه عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وعند حديثه عن مقتل أخيه مصعب بن الزبير يذكر قول عبد الملك بن مروان رغم أنه قتل على أيدي جنوده؛ "واروه فقد والله كانت الحرمة بيننا وبينه قديمة، ولكن هذا الملك عقيم"(14).
- الأخذ من مصادر مباشرة؛ إما عن طريق مشاهدته، أو من شهود العيان لها.
- أنها لم يهتم تقتصر على الروايات التي تتصل بأمر الحكم فقط، أو ما يسمى في العصر الحديث بالتاريخ السياسي، وإنما تناولت كثيراً من الأمور الاجتماعية.
منهج عروة التاريخي:
ورغم كثرة المرويات التاريخية عن عروة إلا أننا لا نستطيع أن نعرف أو نحدد بإيضاح المنهج الذي سلكه في كتابة مروياته أو جمعها؛ لأن هذه المرويات كما ذكرت وردت متناثرة في ثنايا الكتب، إضافة إلى أن المؤرخين الذين حفظوها لنا كانوا في بعض الأحيان لا ينقلون الرواية كاملة، وإنما يأخذون منها ما يحتاجون لدمجه في مرويات أخرى؛ ليكون الفكرة التي يريدون عرضها أو تقديمها.
1- أنه كان يجمع الروايات التي ترتبط بالحادثة الواحدة ثم يصوغها بأسلوبه الخاص في دقة وتسلسل، وهذا ما سمي فيما بعد بالإسناد الجمعي، فكان عروة أول من اتبعه، وليس الزهري كما ظن بعض الباحثين المعاصرين.
2- أنه كان يمهد للحادثة التي يتكلم عنها في مقدمة توضح سببها قبل ذكر تفاصيلها(15)، ومثال ذلك: تمهيده لهجرة المسلمين إلى الحبشة، بقوله: "لما دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قومه لما بعثه الله من الهدى والنور الذي أنزل عليه، ولم يبعدوا منه أول ما دعاهم، وكادوا يسمعون له، حتى ذكر طواغيتهم. وقدم ناس من الطائف من قريش لهم أموال، أنكروا ذلك عليه واشتدوا عليه … ثم ائتمرت رؤوسهم بأن يفتنوا من تبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم، فكانت فتنة شديدة الزلزال على من اتبع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فافتتن من افتتن، وعصم الله منهم من شاء، فلما فعل ذلك بالمسلمين أمرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يخرجوا إلى أرض الحبشة …" (16).
3- أنه كان يوضح أحياناً العلاقة بين الأحداث ويربط بعضها ببعض، فعند حديثه عن غزوة بدر -مثلاً- ربط بينها وبين بعض المناوشات التي سبقتها، مثل: مقتل ابن الحضرمي، وإيقاع عبد الله بن جحش –رضي الله عنه- ببعض قريش وأسر فريق منهم، إذ يقول: "وكان الذي هاج وقعة بدر وسائر الحروب التي كانت بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين مشركي قريش ما كان من قتل واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي" (17).
4- أنه كان يجمع الآيات القرآنية التي نزلت في الحادثة التي يتكلم عنها أو التي لها صلة بها، ويقوم بتفسيرها.
5- أنه كان يحاول رد ما يوجه إلى بعض الصحابة من اتهام بأمور لا تليق بمنزلتهم على ألسنة ذوي الأهواء، مستنداً إلى المكانة الدينية لهؤلاء الصحابة، فرد اتهام علي –رضي الله عنه- بالمساعدة على قتل عثمان -رضي الله عنه- بقوله: "كان علي أتقى لله من أن يعين على قتل عثمان، وكان عثمان أتقى لله من أن يقتله علي"(18)، عبارة موجزة لو فقهها المسلمون لوفروا ما ضاع من جهد ووقت في بحث خلافات لا وجود لها.
6- أنه لم يكن يكتفي بما يرويه عن غيره، وإنما سجل الحوادث التي شاهدها بنفسه، مثل: حديثه عن حصار عثمان بن عفان -رضي الله عنه- إذ يقول: "وقفت وأنا غلام أنظر إلى الذين حاصروا عثمان -رضي الله عنه- وقد مشى أحدهم إلى الخشبة؛ ليدخل إلى عثمان فلقيه عليها أخي عبد الله فضربه..."(19)، ويقول أيضاً مصوراً حال الناس زمن عثمان -رضي الله عنه-: "أدركت زمن عثمان وما من نفس مؤمنة إلا ولها في بيت مال الله حق" (20).
7- أنه عند حديثه عن غزوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو المعارك الإسلامية كان يقدم مع أحداث الغزوة قائمة بأسماء من شهدها ومن استشهد فيها، فيقول مثلاً: "ممن شهد بدراً: أبو حذيفة بن عتبة (21)، وثابت بن حسان (22)، وممن شهد أحداً: ثعلبة بن ساعدة (23)، وممن شهد جسر أبي عبيد أنيس بن عتيك (24)، وممن استشهد باليمامة: بشير بن عبد الله الأنصاري(25)".
8- كما أنه قدم تراجم لكثير من الصحابة، وهذه الترجمة قد تكون وافية أحياناً، وأحياناً موجزة لا تتعدى سطراً واحداً، مثل قوله: "كان صهيب من المستضعفين من المؤمنين الذين كانوا يعذبون في الله"(26)، وقوله: "كان بلال من المستضعفين من المؤمنين، وكان يعذب حين أسلم ليرجع عن دينه، فما أعطاهم قط كلمة مما يريدون"(27).
10- أنه حرص على إيراد التواريخ وبدقة تامة، فيقول عن نزول الوحي: "عرض له جبريل ليلة السبت وليلة الأحد، ثم أتاه بالرسالة يوم الاثنين لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان ورسول الله ابن أربعين"(28). وانظر إلى وصفه لمرض ووفاة أبي بكر الصديق: "كان أول ما بدأ مرض أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه اغتسل يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة، وكان يوماً بارداً، فحُمَّ خمسة عشر يوماً لا يخرج إلى الصلاة...، وتوفى ليلة الثلاثاء لثمان ليال بقين من جُمادى سنة (13هـ)، وكانت خلافته سنتين وأربعة أشهر إلا أربع ليال، فتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة"(29).
تقييم مروياته:
ورغم ما اشتهر به عروة من فضل، وقبول بين المحدثين إلا أنه لا يمكن التسليم بكل المرويات المنسوبة إليه؛ لأنه بمنزلته العلمية ومكانته من أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- لم يكن بمنأى عن الوضَّاعين أن يستغلوا ذلك ليروجوا عن طريقه بعض أكاذيبهم. ومن هذه الروايات:
ما نسبهُ إليه أبو نعيم في حلية الأولياء عن عائشة –رضي الله عنها- "النظر إلى علىَّ عبادة"(30). فقد أشار إلى وضع هذا الخبر صاحب تذكرة الموضوعات، وقال: "إن بعض علماء الحديث أشاروا إلى أنه موضوع ومتنه ينبئ بذلك".
وما نسبهُ إليه السيوطي في كتابه الخصائص؛ "أصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوماً فجاءه إنسان قدم من ناحية طريق مكة فقال له: ((هل لقيت أحداً؟)) قال: لا يا رسول الله، إلا امرأة سوداء عريانة ثائرة الشعر، فقال رسول الله: ((تلك الحمى ولن تعود بعد اليوم أبداً))"(31)، والمعروف عند أهل الطب أن الحمى تصيب الإنسان نتيجة فيروسات معينة تهاجم الجسم، فينتج عنها الأعراض التي نراها، فما علاقة ذلك إذاً بالمرأة السوداء ثائرة الشعر، وكيف تشبهت تلك الفيروسات الموجبة لمرض الحمى بها، وإنما الصحيح ما جاء عند البخاري: ((رأيت كأن امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى قامت بمهيعة -وهي الجحفة- فأولت أن وباء المدينة نقل إليها)) (32).
وما نسب إليه عند ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق؛ "لما نزل طاعون عمواس كان أبو عبيدة معافى منه وأهله، فقال: اللهم نصيبك في آل أبي عبيدة، قال: فخرجت بأبي عبيدة في خنصره بثرة فجعل ينظر إليها، فقيل: إنها ليست بشيء، فقال: إني لأرجو أن يبارك الله فيها، فإنه إذا بارك في القليل كان كثيراً"(33)، فمحال أن يصدر هذا الكلام عن صحابي مثل أبي عبيدة –رضي الله عنه-، وهو يعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان ينهى عن تمني نزول البلاء، وإذا كان أبو عبيدة -رضي الله عنه- يريد الأجر والثواب ففي رباطه وجهاده، وإذا أراد الموت في سبيل الله فليس الموت بالطاعون بأفضل من القتل في ساحة القتال.
ثم متى أباح الإسلام الدعاء بالبركة في المرض ورسولنا –صلى الله عليه وسلم- هو القائل: ((تداووا عباد الله))(34)، ليس هذا فقط بل طالب المسلم أن يقي نفسه من الإصابة بالأمراض فضلاً عن أن يتمناها قدر إمكانه، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((فر من المجذوم فرارك من الأسد))(35).
ومما يدل على بطلان هذا الخبر: أن ابن عساكر أورد خبراً آخر عنه يتوافق مع ما ذكرت، ويليق بأبي عبيدة وفهمه لمقدور الله وهو: "عن أنس: أن عمر بن الخطاب أقبل ليأتي الشام، فاستقبله أبو طلحة وأبو عبيدة بن الجراح فقالا: إن معك وجوه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخيارهم، وإنا تركنا بعدنا مثل حريق النار -يعني الطاعون- فارجع العام، فرجع"(36)، وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا سمعتم بالطاعون في بلد فلا تخرجوا منه ولا تدخلوا إليه))(37).
ولكن ذلك لا يجعل الشك يتسرب إلينا تجاه مروياته، فإن طريق التعرف على الدخيل عليها يسيراً إن شاء الله.
الهوامش:
(1) ابن الجوزي: صفة الصفوة (جـ2، ص:82)، والبلاذري: أنساب الأشراف (جـ5، ص:284). إصدار مكتبة المثنى ببغداد.
(2) الذهبي: سير أعلام النبلاء، (جـ4، ص:424).
(3) ابن كثير: البداية والنهاية، (جـ9، ص:137).
(4)ابن الجوزي: صفة الصفوة، (جـ2، ص:87).
(5) ابن كثير: البداية والنهاية، (جـ9، ص:136)، وانظر أيضاً: خير الدين الزرِكلي: الأعلام، (جـ4، ص:226) دار العلم للملايين بيروت.
(6) الذهبي: سير أعلام النبلاء، (جـ4، ص:423).
(7) البداية، (جـ9، ص:136).
(8) أ/ محمد شفيق غبريال: بحث بعنوان: أساليب كتابة التاريخ عند العرب. مجلة مجمع اللغة العربية، (جـ14، ص:20) ط سنة (1962م).
(9) أ/ محمد محمد أبو زهو: الحديث والمحدثون، (ص:129).
(10) ابن عبد البر: الدرر في اختصار المغازي والسير، (ص:31)، تحقيق د/ شوقي ضيف، دار المعارف بالقاهرة. (ط: 2)، سنة (1983م).
(11) ابن هشام، (جـ1، ص:225).
(12) الطبري، (جـ3، ص:55)، والحديث في صحيح مسلم؛ (جـ3، رقم: 1780).
(13) الطبري، (جـ2، ص:510).
(14) السابق، (جـ6، ص:161).
(15) أ / عبد العزيز الدوري: نشأة علم التاريخ عند العرب، (ص، 76).
(16) الطبري، (جـ2، ص:328).
(17) الطبري، (جـ2، ص:420).
(18) المبرد: الكامل في الأدب، (جـ2، ص:916)، تحقيق محمد أحمد الدالي: نشر مؤسسة الرسالة.
(19) ابن عساكر: تهذيب تاريخ دمشق، (جـ7، ص: ).
(20) عمر بن شبة: تاريخ المدينة، (جـ4، ص:1023).
(21) ابن حجر: الإصابة، (جـ4، ص:34).
(22) ابن الأثير: أسد الغابة، (جـ1، ص:266)، تحقيق: أ/ علي محمد البجاوي، ط سنة (1970م).
(23) ابن حجر: الإصابة، (جـ1، ص:200).
(24) ابن الأثير: أسد الغابة، (جـ1، ص:157).
(25) السابق: (جـ1، ص:162).
(26) البلاذري: أنساب الأشراف، (جـ1، ص:181).
(27) السابق: (جـ1، ص:185).
(28) السابق: (جـ1، ص:116).
(29) الطبري: (جـ3، ص:419 وما بعدها).
(30) أبو نعيم الأصفهاني: حلية الأولياء، (جـ2، ص:183).
(31) السيوطي: الخصائص، (جـ1، ص: 483).
(32) البخاري: (جزء 6 - صفحة 2580).
(33) ابن الأثير: أسد الغابة، (جـ3، ص:130).
(34) السيوطي: الجامع الصغير، (جـ3، رقم: 3271).
(35) البخاري، (جـ4، رقم: 5380).
(36) ابن عساكر: تهذيب تاريخ دمشق، (جـ6، ص:6).
(37) أبو داود: السنن، رقم (1130).